الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (37- 42): {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)}وقوله سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ...} الآية، آيةُ تقريرٍ ووعيدٍ، و{تُبَّعٍ}: مَلِكٌ حِمْيَرِيٌّ، وكان يقال لكل ملك منهم: {تُبَّع} إلاَّ أَنَّ المُشَارَ إليه في هذه الآية رَجُلٌ صالحٌ؛ رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق سَهْلِ بنِ سَعْدٍ «أَنَّ تُبَّعاً هَذَا أَسْلَمَ وَآمَنَ بِاللَّهِ»، وقد ذكره ابن إسْحَاقَ في السيرة، قال السُّهَيْلِيُّ: وبَعْدَ ما غزا تُبَّعٌ المدينة، وأراد خَرَابَهَا أُخْبِرَ بِأَنَّها مُهَاجَرُ نَبِيٍّ اسمه أَحْمَدُ، فانصرف عَنْهَا، وقال فيه شعراً وأودعه عند أهلها، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر، إلى أَنْ هاجر إليهم النبي عليه السلام فَأَدَّوْهُ إليه، ويقال: إنَّ الكتاب والشعر كانا عند أبي أيوبَ الأنصاريِّ ومنه: [من المتقارب]وذكر الزَّجَّاجُ، وابن أبي الدنيا: أَنَّه حُفِرَ قَبْرٌ ب صنعاء في الإِسلام، فَوُجِدَ فيه امرأتانِ صحيحتان، وعند رأسهما لَوْحٌ من فِضَّةٍ مكتوبٌ فيه بالذَّهَبِ: هذا قَبْرُ حبى ولَمِيسَ، ويروى: وتُماضِرَ ابنتي تُبَّعٍ، ماتتا وهما تَشْهَدَانِ أَنْ لاَ إله إلاَّ اللَّه، ولا تُشْرِكَانِ به شَيْئاً، وعلى ذلك مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُمَا، انتهى، و{يَوْمَ الفصل}: هو يَوْمُ القيامة وهذا هو الإخْبَارُ بِالبَعْثِ، والمولى في هذه الآية: يَعُمُّ جميعَ المَوَالِي. .تفسير الآيات (43- 49): {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)}وقوله سبحانه: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم} رُوِيَ عن ابن زيد؛ أَنَّ الأثيم المشار إليه أَبُو جَهْلٍ، ثم هي بالمعنى تتنَاوَلُ كُلَّ أثيمٍ، وهو كُلُّ فاجر، رُوِيَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ، جَمَعَ أبو جَهْلٍ عَجْوَةً وَزُبْداً، وقال لأصحابه: تَزَقَّمُوا، فهذا هو الزَّقُّومُ، وهو طَعَامِي الذي حَدَّثَ به محمَّدٌ، قال * ع *: وإنَّما قصد بذلك ضَرْباً من المغالطة والتلبيس عَلَى الجَهَلَةِ.وقوله سبحانه: {كالمهل} قال ابن عباس، وابن عمر: المُهْلُ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وعَكَرُهُ، وقال ابن مَسْعُودٍ وغيره: المُهْلُ: ما ذاب مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، والمعنى: أَنَّ هذه الشجَرَةَ إذا طَعِمَهَا الكافِرُ في جَهَنَّمَ، صارَتْ في جوفه تَفْعَلُ كما يفعل المُهْلُ المُذَابُ من الإحراق والإفساد،، و{الحميم}: الماءُ السُّخْنُ الذي يتطايَرُ من غليانه.وقوله: {خُذُوهُ...} الآية، أي: يقال يومئذ للملائكة: خذوه، يعني الأثيم {فاعتلوه} والعَتْلُ: السَّوْقُ بعُنْفٍ وإهانةٍ، ودَفْعٌ قَوِيٌّ مُتَّصِلٌ، كما يُسَاقُ أبداً مرتكبُ الجرائمِ، والسَّوَاء: الوَسَط، وقيل: المُعْظمُ، وذلك متلازِمٌ.وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} مُخَاطَبَةٌ على معنى التَّقْرِيعِ..تفسير الآيات (50- 54): {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)}وقوله سبحانه: {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ}: عبارة عن قولٍ يُقَالُ للكَفَرَةِ، ثم ذكر تعالى حالة المُتَّقِينَ، فقال: {إِنَّ المتقين في مَقَامٍ أَمِينٍ} أي: مأمون، والسُّنْدُسُ: رقيقُ الحَرِيرِ، والإسْتَبْرَقُ: خَشِنُهُ.وقوله: {متقابلين}: وَصْفٌ لمجالسِ أهل الجَنَّةِ، لأَنَّ بعضهم لا يستدبر بعضاً في المجالس، وقرأ الجمهور: {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} وقرأ ابن مسعود: {بعِيسٍ عِينٍ} وهو جمع عَيْسَاءَ، وهي البيضاء؛ وكذلك هي من النُّوقِ، وروى أبو قِرْصَافَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «إخْرَاجُ القُمَامَةِ مِنَ المَسْجِدِ مُهُورُ الحُورِ العِينِ» قال الثعلبيُّ: قال مجاهد: يَحَارُ فِيهِنَّ الطَّرْفُ من بياضهنَّ وصفاء لونهنَّ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ من وراء ثيابِهِنَّ، ويَرَى الناظر وَجْهَهُ في كعب إحداهُنَّ كالمرآة من رِقَّةِ الجِلد وصفاء اللون، انتهى..تفسير الآيات (55- 59): {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}وقوله سبحانه: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فاكهة} أي: يدعون الخَدَمَةَ والمتصرِّفين.قال أبو حيان: {إِلاَّ الموتة}: استثناء مُنْقَطِعٌ، أي: لكن الموتة الأولى ذَاقُوهَا، انتهى،، والضمير في {يسرناه} عائدٌ على القرآن {بِلَسَانِكَ} أي: بِلُغَة العرب؛ قال الوَاحِدِيُّ: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}: أي: يَتَّعِظُون، انتهى، وفي قوله تعالى: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} وَعْدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للكافرين..تفسير سورة الجاثية: وهي مكية.بسم الله الرحمن الرحيم.تفسير الآيات (1- 8): {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)}قوله عزَّ وجلَّ: {حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم إِنَّ في السموات والأرض لأيات لِّلْمُؤْمِنِينَ} قال أبو حيَّان: أجاز الفَخْرُ الرَّازِي في {العزيز الحكيم} أنْ يكونا صفتينِ ل اللَّه، وهو الراجح، أو ل الكتاب؛ ورُدَّ بأنَّه لا يجوز أنْ يكونا صفتين للكتاب من وجوهٍ، انتهى.وذكر تبارَكَ وتعالى هنا الآياتِ الَّتِي في السموات والأرضِ مُجْمَلَةً غَيْرَ مُفَصَّلَةٍ، فكأَنَّها إحالةٌ على غوامِضَ تُثِيرُها الفِكَر، ويُخْبِرُ بكثير منها الشَّرْعُ؛ فلذلك جعلها للمؤمنين، ثم ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان، وكأَنَّه أَغْمَضَ؛ فجعله للموقنين الذين لهم نظر يُؤَدِّيهم إلى اليقين، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار، والعِبْرَة بالمطرِ والرياحِ، فجعل ذلك لقومٍ يعقلون؛ إذ كُلُّ عاقلٍ يُحَصِّلُ هذه ويفهم قَدْرَهَا.قال * ع *: وإنْ كان هذا النَّظَرُ لَيْسَ بلازِمٍ وَلاَ بُدَّ، فإن اللفظ يعطيه، والرزق المُنَزَّلُ من السماء هو: المَاءُ، وسَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِزْقاً بمآلِهِ، لأَنَّ جَمِيعَ ما يَرْتَزِقُ، فَعَنِ الماءِ هُوَ.وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.وقال جلَّتْ عظمته: {فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ} آية تقريعٍ وتوبيخٍ، وفيها قُوَّةُ تهديدٍ، والأَفَّاكُ: الكَذَّابُ الذي يقَعُ منه الإفْكُ مِرَاراً، والأَثِيمُ: بناءُ مُبَالَغَةٍ، اسمُ فاعلٍ من أَثِمَ يأْثَمُ، ورُوِيَ أَنَّ سبب الآية أبو جَهْلٍ، وقيل: النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، والصواب أَنَّها عامَّةٌ فيهما وفي غيرهما، وأَنَّها تَعُمُّ كُلَّ مَنْ دخل تحت الأوصافِ المذكورة إلى يوم القيامة و{يُصِرُّ} معناه: يَثْبُتُ على عقيدته من الكُفْرِ.وقوله: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: مُؤْلِمٍ..تفسير الآيات (9- 10): {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)}وقوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً} أي: أُخْبِرَ بشيْءٍ من آياتنا، فعلم نَفْسَ الخبر لا المعنى الذي تضمَّنه الخَبَرُ، ولو عَلِمَ المعانِيَ الَّتِي تَضَمَّنَها أخبارُ الشَّرْعِ، وَعَرَفَ حقائِقَهَا لكان مؤمناً.* ت *: وفي هذا نظر؛ لأَنَّه ينحو إلى القَوْلِ بأَنَّ الكفر لا يُتَصَوَّرُ عناداً مَحْضاً، وقد تَقَدَّمَ اختيارُهُ رحمه اللَّه لذلك في غير هذا المَحَلِّ، فَقِفْ عليه، وخَشْيَةُ الإطالة منَعَتْنِي مِنْ تَكْرَارِهِ هنا..تفسير الآيات (11- 13): {هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}وقوله سبحانه: {هذا هُدًى} إشارة إلى القرآن.وقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ} بمنزلة قولك: لهم حَظٌّ، فَمِنْ هذه الجهةِ ومِنْ جِهَةِ تَغَايُرِ اللفظَيْنِ حَسُنَ قوله: {عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ}، إذ الرِّجْزُ هو العذابُ.وقوله: {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} أَقَامَ القُدْرَةَ والإذْنَ مُنَابَ أَنْ يَأْمُرَ البَحْرَ والنَّاسَ بذلك، وقرأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ: {جَمِيعاً مِنْه} بضم التاء، وقرأ أيضاً: {جَمِيعاً مَنُّهُ} بفتح الميم وشد النون والهاء وقرأ ابن عباس: {مِنَّةً} بالنصب على المصدر.وقوله تعالى: {إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} قال الغَزَّاليُّ في الإحياء: الْفِكْرُ والذِّكْرُ أعلى مقامَاتِ الصالحين، وقال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّ الناظرين بِأنوار البصيرة عَلِمُوا أنْ لا نجاةَ إلاَّ في لقاء اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَنَّه لا سبيل إلى اللقاء إلاَّ بأَنْ يَمُوتَ العبد مُحِبًّا للَّه تعالى، وعارِفاً به، وأَنَّ المحبَّةَ والأُنْسَ لا يتحصَّلانِ إلاَّ بدوامِ ذِكْرِ المحبوب، وأَنَّ المعرفة لا تحصل إلاَّ بدوام الفِكْرِ، ولن يتيسَّر دوامُ الذِّكْرِ والفِكْر إلاَّ بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقَدْرِ البُلْغَةِ والضَّرُورَةِ،، ثم قال: والقرآنُ جامعٌ لفَضْلِ الذِّكْرِ والفِكْرِ والدُّعَاءِ مَهْمَا كان بِتَدَبُّرٍ، انتهى..تفسير الآيات (14- 17): {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)}وقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ...} الآية، قال أَكْثَرُ النَّاسِ: هذه الآيةُ منسوخٌة بِآية القتال، وقالَتْ فرقةٌ: بل هي مُحْكَمَةٌ؛ قال * ع *: الآية تتضمَّن الغُفْرَانَ عُمُوماً، فينبغي أَنْ يقال: إنَّ الأُمور العظام، كالقتل والكُفْرِ مُجَاهَرَةً ونحو ذلك قد نَسَخَتْ غفرانَهُ، آيةُ السَّيْفِ والجِزْيَةِ، وما أحكمه الشَّرْعُ لا محالة، وأَنَّ الأُمورَ الحقيرةَ كالجَفَاءِ في القول ونحوِ ذلك تحتملُ أنْ تبقى مُحْكَمَةً، وأنْ يكونَ العفْوُ عنها أقربَ إلى التقوى.وقوله {أَيَّامَ الله} قالت فرقة: معناه: أيام إنعامه، ونَصْرِهِ، وتنعيمه في الجنة، وغَيْرُ ذلك، وقال مجاهد: {أَيَّامَ الله}: أيامُ نِقَمِهِ وعَذَابِهِ، وباقي الآية بَيِّنٌ.وقوله سبحانه: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ...} الآيةُ، قَدْ تَقَدَّم بيان نظيرها في سورة يُونُسَ وغيرها..تفسير الآيات (18- 20): {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}وقوله سبحانه: {ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر...} الآية: الشريعةُ لُغَةً: مَوْرِدُ المياه، وهي في الدين من ذلك؛ لأَنَّ الناس يَرِدُونَ الدينَ ابتغاءَ رحمةِ اللَّهِ والتقرُّبِ منه، و{الأمر} وَاحدُ الأمور، ويحتمل أنْ يكون وَاحِدَ الأَوَامِرِ، و{الذين لاَ يَعْلَمُونَ} هم: الكُفَّارُ، وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ والله وَلِىُّ المتقين} تحقيرٌ للكفرة من حيث خروجُهم عن ولاية اللَّه تعالى.* ت *: وقد قال صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ: «أَجِيبُوهُمْ فَقُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ»، وذلك أَنَّ قريشاً قالوا للصحابة: لنا العزى، ولاَ عزى لَكُمْ.وقوله عز وجل: {هذا بصائر لِلنَّاسِ} يريد: القرآن، وهو جمع بَصِيرَةٍ، وهو المُعْتَقَدُ الوثيقُ في الشيء، كأَنَّه من إبْصَارِ القَلْبِ؛ قال أبو حَيَّان: قُرِئ: {هذه} أي: هذه الآيات، انتهى..تفسير الآيات (21- 22): {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)}وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} قيل: إنَّ الآية نزلَتْ بسبب افتخار كان للكُفَّارِ على المؤمنين، قالوا: لَئِنْ كَانَتْ آخِرَةٌ، كما تزعمون، لَنُفَضَّلَنَّ عليكم فيها، كما فُضِّلْنَا في الدُّنْيَا.و{اجترحوا} معناه: اكتسبوا، وهذه الآية متناولة بلفظها حالَ العُصَاةِ من حال أهل التقوى، وهي موقف للعارفين يَبْكُونَ عنده، ورُوِيَ عن الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، أَنَّهُ كانَ يُرَدِّدُهَا ليلةً حتَّى أَصْبَحَ، وكذلك عن الفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وكان يقول لنفسه: لَيْتَ شِعْرِي! مِنْ أيِّ الفَرِيقَيْنِ أَنْتَ؟ وقال الثعلبيُّ: كانت هذه الآية تُسَمَّى مَبْكَاةَ العابدين، قال * ع *: وأَمَّا لفظها فيعطى أَنَّه اجتراحُ الكُفْرِ، بدليل معادلته بالإِيمان، ويحتمل أَنْ تكونَ المعادلة بَيْنَ الاِجتراحِ وَعَمَلِ الصالحات، ويكونَ الإيمانُ في الفريقَيْنِ، ولهذا بكى الخائفون رضي اللَّه عنهم.* ت *: وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده؛ أَن تَمِيماً الدَّارِيَّ رضي اللَّه عنه باتَ ليلةً إلى الصَّبَاحِ، يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، وَيُرَدِّدُ هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} الآية، ويبكي رضي اللَّه عنه، انتهى.وقوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: {ما} مصدريةٌ، والتقدير: ساء الحُكْمُ حْكْمُهُم..تفسير الآيات (23- 24): {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)}وقوله سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ...} الآيَة: تسليةٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أي: لا تَهْتَمَّ بأمر الكَفَرَةِ من أجل إعراضهم عن الإيمان، وقوله: {إلهه هَوَاهُ} إشارة إلى الأصنام؛ إذ كانوا يعبدون ما يَهْوَوْنَ من الحجارة، وقال قتادة: المعنى: لا يَهْوَى شيئاً إلا رَكِبَهُ، لا يخافُ اللَّه؛ فهذا كما يقال: الهوى إله مَعْبُودٌ، وهذه الآية وإنْ كانت نزلَتْ في هَوَى الكُفْر؛ فهِي مُتَنَاوِلَةٌ جميعَ هوى النفس الأَمَّارَةِ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ»، وقال سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: هَوَاكَ دَاؤُكَ؛ فَإنْ خَالَفْتَهُ فَدَوَاؤُك،، وقال وهْبٌ: إذا عَرَضَ لك أمران، وشككْتَ في خَيْرِهِمَا، فانظر أَبْعَدَهُمَا مِنْ هَوَاكَ فَأْتِهِ؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل: [الطويل]قال الشيخ ابن أبي جَمْرَةَ: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: «فَيُقَالُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلِيَتْبَعْهُ»شيئاً يعم جَمِيعَ الأشياء، مُدْرَكَةً كانَتْ أو غَيْرَ مُدْرَكَةٍ، فالمُدْرَكُ: كالشمس والقمر، وَغَيْرُ المُدْرَكِ، مِثْلُ: الملائكة والهوى؛ لقوله عزَّ وجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ}، وما أشبه ذلك، انتهى،، قال القُشَيْرِيُّ في رسالته: وحُكِيَ عن أبي عمران الواسطيِّ قال: انكسرت بنا السفينةُ، فَبَقِيتُ أنا وامرأتي على لَوْحٍ، وقد وَلَدَتْ في تِلْكَ الحَالِ صَبِيَّةٌ، فصَاحَتْ بي، وقالت: يَقْتُلُنِي العَطَشُ، فقلْتُ: هو ذا يرى حالَنَا، فرفعتُ رَأْسِي، فإذا رجُلٌ في الهواء جالِسٌ في يده سِلْسِلَةٌ من ذَهَبٍ، وفيها كُوزٌ من ياقُوتٍ أَحْمَرَ، فقال: هَاكَ، اشربا، قال: فأخذتُ الكُوزَ فَشَرِبْنَا منه، فإذا هو أطيبُ مِنَ المِسْكِ، وأبردُ مِنَ الثَّلْجِ، وأحلى من العَسَلِ، فقلت: مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّه؟ فقال: عبدٌ لمولاكَ، فقلْتُ له: بِمَ وَصَلْتَ إلى هذا؟ فقال: تركْتُ هَوَايَ لمَرْضَاتِهِ، فأجلَسَنِي في الهواء، ثُمَّ غَابَ عَنِّي، ولم أره، انتهى.وقوله تعالى: {على عِلْمٍ} قال ابن عباس: المعنى: على عِلْمٍ من اللَّه تعالى سَابِقٍ، وقالت فرقة: أي: على عِلْمٍ من هذا الضَّالِّ بتَرْكِهِ للحَقِّ وإعراضِهِ عنه، فتكُونُ الآية على هذا التأويل من آيات العِنَادِ؛ من نحو قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14].وقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} استعاراتٌ كُلُّهَا.وقوله: {مِن بَعْدِ الله} فِيهِ حَذْفُ مضافٍ، تقديره: مِنْ بعدِ إضلالِ اللَّهِ إيَّاه، واخْتُلِفَ في معنى قولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} فقالت فرقة: المعنى: يَمُوتُ الآباء، ويحيا الأبناء، وقالت فرقة: المعنى: نَحْيَا ونَمُوتُ، فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، وقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} أي: طولُ الزمانِ.
|